يقول الدكتور " راتب النابلسي " :
توقفت كثيرًا في سورة يس ؛ فوجدت فيها أمرًا ربما لا نلتفت إليه كثيرًا ؛ ترتبط سورة يس بالموت ؛ غالبا ما تجد أهل المتوفي يعكفون على قراءة سورة يس يوم الوفاة لعل الله ينفع بها الميت ؛ والأوفياء منهم يواظبون عليها عدة أيام بعد وفاة عزيز عليهم ...
لكني ألتفت إلى أمر مهم في سورة يس ؛ قال الله عن القرآن الكريم فيها
{ لينذر من كان حياً } ولم يقل لينفع من كان ميتا ؛ لست أناقش هاهنا موضوع إنتفاع الميت بقراءة الحي للقرآن ؛ ولكني ألتفت إلى أننا أغفلنا الحكمة الأعظم من القرآن { لينذر من كان حيا } ؛ ثم جعلت أتساءل ... كم من الأحياء الذين قرأوا سورة يس إنتفع بها ... ؟!!! ؛
كم منهم تعلم منها ولو معنى واحد ... ؟!!! كم منهم أثرت في حياته وغيرت منها شيئا ... ؟!!! هؤلاء الألوف الذين يقرؤونها كل يوم ما صنعوا بها ... ؟!!!
ثم سألتني ... ماذا صنعت أنت بها ؟!!! ... ووقفت قليلاً أتدبر السورة ؛ حقيقة لفت إنتباهي فيها آيات كثيرة ؛ لكنّ أبرز ما لفت إنتباهي هي قصة القرية التي جاءها المرسلون ...
لعل أكثرنا يعرفها ؛ لكن الذي إستوقفني فيها شيء أدهشني ...
في القصة أن رجلاً من القرية إقتنع بما يدعو إليه المرسلون ؛ وقام ملهوفا على قومه { من أقصا المدينة } ؛ جاء يحاور قومه ويدعوهم إلى ما إعتقد أنه سبيل الفوز والسعادة ؛ جاء يحمل الخير لهم ؛ جاء فزعا إلى نضج أفكارهم ؛ جاء بخطاب يمس العاطفة فيستميلها ؛ ويخاطب العقل فيقنعه ؛ وكانت مكافأته من قومه أن قتلوه ؛ ليست قتلة عادية ؛ بل بطريقة حقيرة رديئة لا يزاولها إلا حيوان بريٌ لم يعرف شكلاً إلى التهذيب والتربية ... تروي التفاسير أن قومه قاموا إليه فركلوه ورفسوه حتى خرج قصهُ " عظمة القص تصل ما بين الأضلاع " من ظهره ...
ثم يدهشك ما سيحدث بعد ذلك ...
يخبرنا القرآن الكريم أن هذا الرجل قيل له { أدخل الجنة } ... لو كنت مكانه لفكرت على الفور " ياربي والقتلة ألن تنتقم لي منهم ؟!!!
ألن تعذبهم ؟!!! يارب سلط عليهم حميرًا ترفسهم حتى يموتوا ..." ؛ لكن الذي أدهشني هو أمنية الرجل
{ قال ياليت قومي يعلمون • بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين }
...حقيقة توقفت كثيرًا أمام هذه النفسية العظيمة ؛ نفس رحبة واسعة جدًا ؛ حتى أنها لم تحمل ضغينة على القتلة ؛ بل على العكس كانت أول أمنية له فور أن بشر بالجنة ؛ لو أن هذا المجتمع القاسي الذي قابل الجميل بالقتل ؛ لو أنهم يعلمون المنقلب ؛ لو أنهم يطلعون على الخير الذي أعده الله للصالحين
{ ياليت قومي يعلمون } ...
أدهشني حرصه على الخير لقومه مع ما واجه منهم ...
أدهشني تمسكه بالرغبة في إصلاحهم مع ما تبين من عنادهم ...
أدهشني همته في دعوتهم للخير مع توقف مطالبته بالعمل ...
أدهشني حبه الخير للآخرين ؛ حتى من آذوه ...
أدهشني أن تكون أول أمنية له لو أنهم يعلمون ...
وبعد أيامٍ ؛ وقفت من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على موقف مشابه ؛ رحلة الطائف ؛ ويأتيه ملك الجبال :
" لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين ..." ؛ فيجيب :
" اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون "
وصلت إلى خلاصة :
الكبار وحدهم هم الذين يتحملون سفاهة الناس من أجل هدف أسمى ؛ هو إصلاحهم ...
الكبار وحدهم هم الذين لا يعادون أحدًا إنتقاما لأشخاصهم ...
الكبار وحدهم هم الذين تكون أمنياتهم بناء ...
الكبار وحدهم هم من يتقبلون دفع ضريبة حمل الإصلاح للناس ...
الكبار وحدهم هم الذين لا يعرف عامة المجتمع أقدارهم ...
اللهم إجعلنا منهم ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.